- التفاصيل
الحديث:
قال ابن إسحاق "وحدثني الزهري أنه أتى بني عامر بن صعصعة، فدعاهم إلى الله وعرض عليهم نفسه فقال له رجل منهم يقال له بيحرة بن فراس: والله لو أني أخذت هذا الفتى من قريش لأكلت به العرب. ثم قال له: أرأيت إن نحن تابعناك في أمرك ثم أظهرك الله على من يخالفك أيكون لنا الأمر من بعدك؟ قال: (الأَمْرُ للهِ يَضَعُهُ حَيْثُ يَشَاءُ). قال: فقال له: أفنهدف نحورنا للعرب دونك فإذا أظهرك الله كان الأمر لغيرنا! لا حاجة لنا بأمرك فأبوا عليه". ابن كثير في البداية والنهاية، الجزء الثالث، فصل في عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه الكريمة على أحياء العرب.
الشرح:
هذا الحديث يتناول الفترة التي عرض فيها النبي صلى الله عليه وسلم نفسه على القبائل الوافدة منها إلى مكة أو القبائل التي كانت خارج مكة، وكان هدف النبي صلى الله عليه وسلم من تحركاته هو أن تدخل تلك القبائل في دين الله وأن تنصر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إن كانت أهلاً للنصرة والمنعة فتحتضن الدعوة التي لاقت أبواباً موصدة في مكة المكرمة.
وحديث الباب يتحدّث عن زيارة النبي صلى الله عليه وسلم لقبيلة بني عامر بن صعصعة والحوار الذي دار بين قادة هذه القبيلة والرسول الأكرم عليه أفضل الصلاة والسلام.
بعد أن عرض النبي صلى الله عليه وسلم عليهم دعوة الإسلام قبلوا ذلك ولكن كان عندهم تحفُّظ فيما يخص البيعة على الحكم والتزام طاعة النبي صلى الله عليه وسلم كحاكم وأن يكونوا جنداً في جيش دولته الناشئة، فما المقابل الدنيوي لتلك التضحيات الجسام التي ستُقدمها القبيلة فتحارب الأسود والأحمر والعالم كلّه لأجل الدفاع عن دولة النبي صلى الله عليه وسلم؟.. لذلك قالوا: (أرأيت إن نحن تابعناك في أمرك ثم أظهرك الله على من يخالفك أيكون لنا الأمر من بعدك؟)، أي بعد أن نبايعك على الحكم وانتصارك على كل أعدائك ونحن نشاركك هذه الانتصارات فإذا توفاك الله أيكون لنا الخلافة من بعدك؟ .. فكان جواب النبي صلى الله عليه وسلم واضحاً صريحاً وهو الذي لا ينطق عن الهوى: (الأمر إلى الله يضعه حيث شاء) أي لا، فمسألة الحكم ليست بالتعيين أو العهد أو الوراثة بل الأمر شورى بين المسلمين وانتخاب من عامة الأمة ضمن مشيئة الله وإرادته وحكمه الذي أوحى به إلى نبيه.
كان بإمكان النبي صلى الله عليه وسلم أن يقبل إن كان تفكيره مبنياً على فقه المصلحة والمفسدة الذي يجعله البعض الآن هو فقه المرحلة والفقه الذي يتماشى مع الواقع وصعوباته! فالنبي صلى الله عليه وسلم مُطارد ومضطهد من قريش ووضع المسلمين صعب للغاية بعد سبع سنين من الدعوة العلنية التي لاقى المسلمون بسببها التضييق والحصار والتعذيب على أيدي جلاوزة قريش، أفلا تكون هذه فرصة ذهبية يجب على النبي صلى الله عليه وسلم أن يغتنمها، فبني عامر سيُؤمنون به ويُنصِّبونه حاكماً عليهم يحكمهم بالإسلام وليس بالكفر وهم مُستعدون للجهاد تحت رايته ولنصرته وأصحابه ولحرب الأسود والأحمر ... كل ذلك لكن مع شرط صغير تافه وهو أن يكون لهم الحكم من بعده!! ثم أليس باستطاعة النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن يتمكن وتتوسع رقعة دولته وبعد أن يقوى إيمان بني عامر أن يُقنعهم بالتخلي عن هذا الشرط وأنّه مُخالف لمُراد الله أو أن يخبرهم بأن هناك نسخ لهذا الحكم مثلاً.
كل ذلك لم يكن، كيف والنبي صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى وفعله وقوله تشريع وليس اجتهاد كما يظن البعض، نعم إن شرط بني عامر يدلّ على عدم صدقهم في النصرة فعيونهم إلى الدنيا وكرسي الحكم وميزاته ولم تكن نيتهم خالصة لله وحده ولنصرة هذا الدين بحق.
ويدل على ذلك جوابهم القبيح حيث قالوا: (أنهدف نحورنا للعرب دونك، فإذا أظهرك الله كان الأمر لغيرنا، لا حاجة لنا بأمرك) أي سنُقتل من أجلك ونضحي من أجل أن يُظهرك الله وتتمكن في الأرض ثم تكون الخلافة لمن لم يُضحِّ مثلنا؟! فأبوا عليه وأبى النبي صلى الله عليه وسلم أن يلتزم بشرطهم المُخالف للوحي.
فالمسألة ليست بمقدار التضحية لتولي مناصب الحكم بل هي توفر شروط معينة دلّ عليها الوحي لتولي الحكم والخلافة وليس فيها شرطٌ يتعلق بقضية التضحية بل الشروط تركز على قدرة وجدارة وكفاءة الشخص لتولي المنصب، وشروط انعقاد الخلافة على الصحيح هي سبعة: أن يكون الخليفة مسلماً. ذكراً. بالغاً، عاقلاً، عدلاً، حراً، قادراً من أهل الكفاية.
للمكتب الإعلامي لحزب التحرير ولاية سوريا
أحمد الصوراني
للاستماع إلى التسجيل:
- التفاصيل
حينما فقدت الأمة الإسلامية إدراكها بأن مفاتيح التغيير بين يديها وأن حياتها هي ما تصنعه بنفسها وليس أمرا يهبط من السماء، هنا بدأت روح الانحطاط الفكري تلوح في أفق الأمة الإسلامية؛ حتى انعكس على علمائها أنفسهم فظهرت بينهم فكرة الاعتزال والركون إلى الوحدة، وتركوا الأمة وشأنها واعتزلوها ولزموا بيوتهم وصار يدور على ألسنتهم قوله عليه الصلاة والسلام عن عقبة بن عامر - رضي الله عنه - قال: قلت: (يا رسول الله! ما النجاة؟ قال: أَمْسِكْ عليك لِسانَكَ، ولْيَسَعْكَ بَيْتُكَ. وابْكِ على خطيئتك)، أخرجه الترمذي.
ويفهمونه فهما خاطئا ضاربين بهذا الفهم الخاطئ عرض الحائط جميع الآيات والأحاديث التي توجب الخلطة بالناس ووجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ووجوب الأخذ على يد الظالم، ومتناسين قوله عليه الصلاة والسلام: (كلاَّ والله، لتأمُرُنَّ بالمعروف، ولَتَنْهَوُنَّ عن المنكر، ولَتأخُذُنَّ على يَدِ الظَّالم، ولَتَأطِرُنَّهُ على الحق أطْرًا، أو لَتَقْصُرُنَّهُ على الحقِّ قصراً)، رواه أبو داود. ومتناسين لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المسلم الذي يُخالط الناس، ويَصْبِرُ على أَذاهم خير من الذي لا يخالط الناس، ولا يَصْبِرُ على أذاهم)، الترمذي.
كما ظهر لديهم فهم خاطئ لقوله تعالى: (يا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) [المائدة: 105]، فصار أحدهم يستدل بهذه الآية على اعتزال أمر الأمة وترك شؤونها وعدم الاهتمام بما يدور حوله وحول الأمة أو في داخلها من أحداث ومصائب. علما أن الآية فهمها خلاف ذلك قطعا؛ فقد جاء في سنن أبي داود عن قيس بن أبي حازم - رضي الله عنه - قال: قال أبو بكر، بعد أن حَمِد الله وأثنى عليه: يا أيُّها الناس، إنكم تقرؤونَ هذه الآية وتَضَعونَها على غير موضِعِها، (يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفُسَكُم لا يضُرُّكم من ضلَّ إذا اهتديتم) [المائدة: الآية 105]، وإنما سمعنا رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يَديه، أوشَكَ أن يَعُمَّهُم الله بعقاب). وإني سمعت رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (ما من قوم يُعْمَلُ فيهم بالمعاصي، ثُمَّ يَقْدِرُونَ على أنْ يُغَيِّرُوا ولا يغيرون، إلا يوشِكُ أن يَعُمَّهُم الله بعقاب).
كما جاء في المستدرك على الصحيحين للحاكم (4/ 358) عن أبي أمية الشعباني قال: سألت أبا ثعلبة عن هذه الآية (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ ۖ لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ)، فقال أبو ثعلبة: لقد سألت عنها خبيرا، أنا سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلا فقال: (يا أبا ثعلبة مروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر فإذا رأيت شحا مطاعا وهوى متبعا ودنيا مؤثرة ورأيت أمرا لا بد لك من طلبه فعليك نفسك ودعهم وعوامهم فإن وراءكم أيام الصبر صبر فيهن كقبض على الجمر للعامل فيهن أجر خمسين يعمل مثل عمله)، قال الذهبي: صحيح. وهذا الحديث بالذات أخذ منه المسلمون وسطه وتركوا أوله وآخره والذي هو مرتبط به لا ينفك عنه فقد أخذوا منه قوله عليه الصلاة والسلام (فإذا رأيت شحا مطاعا وهوى متبعا ودنيا مؤثرة ورأيت أمرا لابد لك من طلبه فعليك نفسك ودعهم وعوامهم) وتركوا قوله عليه الصلاة والسلام قبله (مروا بالمعروف و تناهوا عن المنكر) وقوله عليه الصلاة والسلام بعده (فإن وراءكم أيام الصبر)، أي عليكم أن تأمروا بالمعروف وتنهوا عن المنكر فإن لم يستجب لكم فاقبضوا على دينكم واصبروا على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فمعنى قوله دع عنك أمر العامة أي لا تصبح مثلهم في التراخي والتهاون في هذه الفريضة بل الزمها ولو لم تقم بها إلا أنت واصبر عليها.
وقد كان لهذا الفهم الخاطئ للشرع أثره السيء على حياة المسلمين، حيث أنه سقطت الخلافة ولم تتحرك الأمة لاسترداد سلطانها ولم تتحرك الأمة لإعادة الإسلام إلى الحياة، ولم تقم بأية حركة ضد ما فعله المجرم مصطفى كمال - اللهم إلا حركات فردية - ولم تتحرك الأمة بمجموعها ضد هذه الجريمة النكراء، وكأن الأمر لا يعنيها ولا يهمها، بل إن بعض أبناء الأمة كان مطية لدول الكفر وشريكا لها في هذه الجريمة النكراء، وكأن التي هُدم صرحها ليست دولتهم وكأن التي طُمست معالمها ليست خلافتهم.
للمكتب الإعلامي لحزب التحرير- ولاية سوريا
أ. معاوية عبد الوهاب
- التفاصيل
الحديث:
روى الطبراني في " مسند الشاميين " (601) من طريق هِشَام بْن عَمَّارٍ، ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ، عَنْ أَبِيهِ، حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ السَّلَامِ صَالِحِ بْنِ رُسْتُمَ مَوْلَى بَنِي هَاشِمٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَوَالَةَ الْأَزْدِيِّ، عن النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (رَأَيْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي عَمُودًا أَبْيَضَ ، كَأَنَّهُ لُؤْلُؤَةٌ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ، قُلْتُ: مَا تَحْمِلُونَ؟ قَالَ: عَمُودُ الْإِسْلَامِ أُمِرْنا أَنَ نَضَعَهُ بِالشَّامِ. وَبَيْنَا أَنَا نَائِمٌ إِذْ رَأَيْتُ الْكِتَابَ اخْتُلِسَ مِنْ تَحْتِ وِسَادَتِي، فَظَنَنْتُ أَنَّ اللَّهَ قَدْ تَخَلَّى مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ، فَأَتْبَعْتُهُ بَصَرِي، فَإِذَا هُوَ نُورٌ بَيْنَ يَدَيَّ حَتَّى وُضِعَ بِالشَّامِ، فَمَنْ أَبَى فَلْيَلْحَقْ بِيَمَنِهِ، وَلْيَسْتَقِ مِنْ غُدُرِهِ, فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ تَكَفَّلَ لِي بِالشَّامِ). "رواه الطبراني ورواته ثقات".
وفي رواية أخرى لأحمد فيها (أَلا إِنَّ الإِيمَانَ -إِذَا وَقَعَتِ الفتن- بالشام). صححها الحاكم في المستدرك.
الشرح:
هذا الحديث من الأحاديث التي تتكلم عن فضائل الشام، وقد كثرت تلك الأحاديث وتعددت الجوانب التي تناولتها، فبعض الأحاديث تكلمت عن فضل أهل الشام وأنهم خيرة خلق الله وبعضها تحدث عن خيرية أرض الشام وأنها أرض المحشر والمنشر، وبعضها تحدث عن حفاوة الملائكة بهذه الأرض الطيبة وأنها باسطة أجنحتها عليها رحمة بأهلها الذين لا شك أنهم خير المتمسكين بالإسلام وأحكامها مقارنة بباقي المسلمين، وجاء حديثنا هذا ليُركز على ناحية أخرى في سياق هذه الفضائل التي ميز الله بها الشام.
فالحديث يتناول مسألة الحكم والخلافة فقول صلى الله عليه وسلم : (رأيْتُ ليلةَ أُسرى بي عمودًا أبيضَ كأنَّهُ لواءٌ تحملُهُ الملائكةُ فقلْتُ ما تحملونَ قالوا عمودَ الإسلام) فهنا المقصود بعمود الإسلام، حكم الإسلام وقد جاء في روايات أخرى بلفظ (عمود الكتاب)، ويؤيد ذلك ما جاء في الشطر الثاني من الرواية في قوله عليه الصلاة والسلام (رأيْتُ الكتابِ اختُلِسَ من تحتِ وسادتي فظننْتُ أن اللهَ تخلَّى عن أهلِ الأرضِ) فاختلاس الكتاب كناية عن ذهاب حكم الإسلام لذلك ظن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله تخلى عن أهل الأرض، فقد تعطل شرع الله وتبدلت أحكامه وحُكم المسلمون بغير الإسلام، إلا أن ذهاب حكم الإسلام كان لفترة معينة وهي المدة التي تحمل فيه الملائكة الكتاب وتذهب به بعيداً، ولكن أين تذهب به؟ نعم تذهب به إلى الشام كما أمرها الله سبحانه وتعالى، وهو دلالة على أن حكم الإسلام ودولة الخلافة ستعود إلى الشام بشرى من الله ورسوله لعباده المؤمنين الصادقين، لذلك جاء في الحديث) أَلا إِنَّ الإِيمَانَ -إِذَا وَقَعَتِ الفتن- بالشام (أي أن الإيمان وأصحاب العقيدة الراسخة هم في الشام بخلاف المناطق الثانية التي تعمها الفتن ويُفتن الناس عن دينهم وعقيدتهم من خلال دعاة على أبواب جهنم يعملون على حرف الناس عن دينهم.
والخلاصة أن في الحديث بشارة عظيمة بعودة حكم الإسلام من أرض الشام المباركة، وإن لم يكن منها فستكون الشام حين قيام دولة الإسلام هي مرتكز هذه الدولة. ذلك أن للنصر والتمكين شروط، وهي أن يكون من يستحق النصر من العاملين للإسلام على درجة من الإيمان الصادق بوجوب تحكيم الإسلام كاملاً في المجتمع وأن النصر من عند الله وأن يكون ملتزماً بأحكام الإسلام في أعماله لا يتنازل عن شيء منها مهما عظمت الضغوطات حتى يستحق أن يكون من الطائفة التي يتنزل عليها نصر الله، فقد روى البخاري ومسلم عن معاوية رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي قَائِمَةً بِأَمْرِ اللَّهِ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ أَوْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ ظَاهِرُونَ عَلَى النَّاسِ) قال معاذ بن جبل: وهم بالشام.
للمكتب الإعلامي لحزب التحرير - ولاية سوريا
أحمد الصوراني
للاستماع إلى التسجيل:
- التفاصيل
عندما انطلقت ثورات فيما سمي بالربيع العربي، كان الهدف من انطلاقتها بدايةً محاولة رفع ما وقع على هذه الأمة من الظلم من قبل حكام نصَّبهم على رقابها أعداءُ هذه الأمة، حيث لم يكن يوماً لها يد في اختيارهم.
فقد كانت ثورة شعوب ولم تكن ثورة مثقفين أو نخب، كانت حركات مجتمعية، انطلقت بدافع الشعور بالظلم ساعية إلى رفعه، كما لم تتخذ قيادة سياسية واعية تقودها إلى تحقيق ما ثارت الشعوب لأجله، وهذا ما يفسر سرعة التفاف الغرب على بعض هذه الثورات عبر أدواته وتمكنه من إعادة الشعوب إلى وضع قريب مما كانت عليه مع تغيير بسيط في وجوه الحكام!
غير أن واقع ثورة الشام يختلف عن واقع غيرها من الثورات، فقد بدت مطالب الأمة أكثر وضوحاً وأكثر جدية، فلم تقتصر مطالبها على رفع الظلم فقط بل بدأت الأمة تبحث عن هويتها التي فقدتها منذ هدم خلافتها، بل وأكثر من ذلك؛ فقد شعرت الأمة بأن عليها أن تسترجع سلطانها المسلوب وأن تختار قيادتها وحكامها، وهذا ما يفسر فشل كل المحاولات التي حاولت دول الكفر أن تفرضها على أهل الشام بالرغم مما وقع عليهم من قصف وتدمير وتقتيل وإجرام من قبل النظام وأعوانه دول الكفر قاطبة وأذيالهم من حكام العرب والعجم، أضف إلى ذلك تآمر الكثير من القيادات والسياسيين الذين اختارهم الغرب الكافر ومضى بهم في سوق التنازلات في جنيف و موسكو و أستانة وغيرها من عواصم المكر والخديعة.
نعم لقد فشلت كل هذه المؤامرات حتى الآن في أن تفرض على الأمة قيادة تقبلها، تعيد من خلالها إنتاج النظام ويبقى لدول الكفر وعلى رأسها أمريكا النفوذ والسيطرة على أهل الشام ومقدراتهم.
وقد غاب عنهم أن النظام ساقط لا محالة ولن ينفعه ما يقوم به من الترويج الإعلامي الكاذب للمصالحات المزعومة، أو إعادة سيطرته على مناطق شاسعة بأسلوب مكشوف رخيص، ولقد بدا ذلك واضحاً جلياً في معركة البوكمال، فبعد سحب مقاتلي التنظيم ونقل قيادييه بواسطة حوامات التحالف لم يستطع النظام أن يدخل المدينة إلا بمؤازرة الحشد الشعبي الشيعي و حزب إيران له، ثم عاد التنظيم وسيطر عليها في سيناريو تكرر كثيراً حتى تعوّد الناس عليه!
لكن في المقابل لا نستطيع أن نقول بأن ثورة الشام تسير على الطريق الصحيح الذي سيوصلها إلى ما خرجت من أجله الأمة وقدمت التضحيات الجسام، فمما لا شك فيه بأن ثورة الشام تمر الآن بمرحلة صعبة وحاسمة، هذه المرحلة اتسمت كما غيرها من المراحل بالحاجة الماسة إلى القيادة الواعية المبصرة التي تقودها إلى النصر المحتم بإذنه تعالى.
وقد بدا ذلك مؤخراً من خلال الأحداث والأعمال العبثية التي انشغلت بها بعض الفصائل من اقتتال داخلي أو السير مع مخططات الدول الإقليمية العميلة التي تكيد بأهل الشام وثورتهم خدمة لدول الكفر، إلى الوقوع في خديعة دول الكفر من خلال تصديقهم لوعودهم الكاذبة.
فالأكراد في الشمال دخلوا في لعبة دول الكفر "محاربة الإسلام" تحت شعار محاربة (الإرهاب)، بعد أن منّوهم كذباً وزوراً بدولة كردية مستقلة، وقد غاب عنهم أن أمريكا وغيرها من دول الكفر لا تهتم لإرادة الشعوب إلا بما يخدم مصالحها، فأحلام زعماء الكرد هذه قدتبخرت وما حدث في كردستان العراق في الآونة الأخيرة ليس عن هذا ببعيد!
وفي الشمال تنشغل الفصائل بإدارة ما بقي من المناطق المحررة على الوجه الذي يقربها ويحسن صورتها عند أعداء الأمة وكأنهم سيرضون عنهم، وقد تركوا قتال النظام، اللهم إلا "معارك هامشية غير مجدية"، وكأن النظام سقط ولم يعد يتربص بهم الدوائر!
أما في الجنوب فقد تداعت بعض الفعاليات والشخصيات، محاولين فرض أنفسهم قيادة سياسية وعسكرية، يروجون للمشروع العلماني، ويحاولون فرض أنفسهم وصاة على أهل الشام، ناسين أو متناسين بأن أهل الشام لن يقبلوا بغير المشروع الإسلامي بديلاً بعد أن قدموا الغالي والنفيس، كيف لا وقد قال رسول الله ﷺ: «عقر دار الإسلام في الشام».
وكذلك فقد قامت بعض الفصائل بمحاولة فك الحصار عن بعض مناطق في ريف دمشق الغربي، ضمن معركة "كسر القيود" تاركين ظهورهم مكشوفة ليهود، متناسين آيات الله عز وجل التي حذرت هذه الأمة من اليهود صراحة وفي أكثر من آية، وتاريخهم مع هذه الأمة ينطق بغدر يهود على مدى العصور منذ نشأة دولة الإسلام في المدينة المنورة، وقد كانت نتيجة هذا العمل الارتجالي، أن أوقع اليهود بينهم وبين الدروز، الأمر الذي طالما عمل عليه النظام السوري ليجعل الدروز ينخرطون بمجملهم في مواجهته مع أهل الشام، ويُظهر النظام ويهود بأنهم حماة للدروز وغيرهم من الأقليات! وقد وقع المجاهدون في هذا الفخ ولا يزال من نجا منهم محاصراً ينتظر نجدته.
هذه الأمور وغيرها من اقتتال ومعارك هامشية لا تسمن ولا تغني من جوع، أدت إلى استنزاف طاقات وإمكانات الكثير من الفصائل وإضعافها في المواجهة أمام النظام، إضافة إلى زرع اليأس في نفوس الأمة؛ فبعد أن كانت تنظر إليهم بإجلال واحترام على أنهم مخلّصوها من ويلات النظام، فقد صرفت النظر عنهم وهي تتطلع إلى أن يخرج من رحمها غيرهم من أبنائها المجاهدين المخلصين يقودون مسيرة الجهاد نحو إسقاط النظام وإقامة نظام الإسلام.
وعليه فإن الوعي على مخططات دول الكفر وعلى رأسها أمريكا مطلوب أساساً، فهي التي تقود الحرب لإنهاء ثورة الشام، وهي التي حددت مهام حكام الضرار في الدول الإقليمية من حكام العرب والعجم، وهي التي أعطت لروسيا مهمة التدمير القذرة لدعم نظام الأسد، وهي التي تدعم النظام في السر والعلن وفي المحافل الدولية وغيرها، وما زيارة المسؤول الأمريكي مؤخراً لدمشق واجتماعه مع علي مملوك إلا مؤشر واضح على أن الاتصالات مع النظام لم تنقطع يوماً، لذلك كان لزاماً حتى تنتصر ثورة الشام - وهي منتصرة بإذنه تعالى - أن تختار قيادة سياسية متبصرة، تعلم ألاعيب دول الكفر وعلى رأسهم أمريكا، وتكون هذه القيادة متبصرة بالطريق وأخطاره، الطريق الذي يحافظ على نقاء الثورة، ويسير على ثوابتها الواضحة في إسقاط النظام بكافة رموزه وأركانه وقطع أحابيل دول الكفر وإقامة سلطان الإسلام، فالأمة قد انتقلت من مرحلة السبات إلى البحث عن الهوية، وهي ترتقي يوماً بعد يوم، ويتبلور هدفها في إعادة سلطانها المسلوب من عقود خلت، وهي تتلمس الطريق إلى ذلك، وستختار بإذنه تعالى القيادة المخلِصة المخلِّصة التي تمتلك مشروع الأمة وتسير معها إلى حيث إقامة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة؛ وعد الله عز وجل وبشرى رسوله ﷺ ﴿وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾ [سورة الروم: 4-5].
كتبه لجريدة الراية: د. محمد الحوراني، بتاريخ الأربعاء 15 تشرين الثاني/أكتوبر 2017م
المصدر: http://bit.ly/2mo9OIy
- التفاصيل
ما زالت ثورة الشام تمر بالمنعطف تلو الآخر، فقد مرت بعدة فترات وأطوار حتى وصلت إلى ما هي عليه اليوم من تفرق وتشرذم، أُريد لها أن تصل إليه، وهذا لا يعني براءة الثورة وأن تبقى تسير دون وعي، ودون مشروع يوضح أهدافها والطريقة التي توصل إلى تحقيق هذه الأهداف، وهذا أيضاً ذريعة من يعمل على إعادة إنتاج النظام بحجة أننا لا نستطيع الانفصال عن النظام الدولي، وأننا يجب أن نضع في حسابنا إرادة هذا المجتمع الظالم الذي رأى المسلمون بعينهم في الشام وخارجها أنه لا ينظر إلى مطالب المسلمين في الشام إلّا من زاوية مصالحه فقط، ورأينا هذا التيار الذي يرى أننا لا يمكننا تجاهل المجتمع الدولي، وكيف أنه ذهب يسترضيه بافتتاح مركز أسماه مركز مكافحة (التطرف والغلو)، وكأن ثورتنا خرجت لمعالجة هذا المرض ألا وهو مرض (التطرف والغلو في الدين)، مع أن هذه الأمراض لا تعالجها مراكز وإنما تعالجها فقط الدولة الإسلامية، وطالما أن الدولة الإسلامية غير قائمة، فإنه من الغباء التفكير بهذه الطريقة للمعالجة، أما التيار الآخر الذي نظر وفكر وقدّر أنه يستطيع الضحك على الغرب بإقامة حكومة إنقاذ، يمكنه الاختباء خلفها، فقد كشف نفسه بأنه مستعد للتنازل عن أهدافه مقابل فتات يرمى له، ولم ير أن التجارب السابقة كتجربة حركة حماس في فلسطين كيف وصلت إلى التنازل عن كل مبادئها بل ومصالحة المجرم السيسي ورفع صوره في ميادين غزة! كل هذه النماذج المشوهة لطريقة التعامل مع الغرب ومجتمعه الدولي القائم على فكرة العلمانية ومبدأ فصل الدين عن الحياة، تدفعنا في الشام إلى التفكير ملياً، في حقيقة أهداف الثورة التي خرج بها أهل الشام، وكشفت به حقيقة النظام الدولي المتآمر على الشام وأهلها.
وهنا لا نريد أن نستعرض الأمراض التي يعرف الجميع أسبابها وكيف وصلت الثورة إلى الطريق المسدود؟ ومحاولة البعض تجاوز هذه العقبة عبر حركات يظن أنها تنفع في حسم الصراع بين الحق والباطل، الذي وجد مع وجود الإنسان، لذلك كان لا بد من حسم هذا الأمر وبيان زيف الأطروحات، وبيان حقيقة المعركة القائمة في الشام منذ سبع سنوات، أما التذرع بأن الناس قد تعبت وأننا يجب أن نوافق على مطالب الغرب وأن نجاريه بمواقفه من الإسلام، فإن هذه أكبر مصيبة ابتليت بها الثورة ممن يدّعون أنهم قائمون عليها، فالغرب يعلم ويفهم الإسلام جيداً، ويعرف طريقته، ويعمل ويمكر على تشويه حقيقته عبر أبنائنا من الطرفين: الأول الذي فهم أنه بحمل شعار الديمقراطية والحرية المجردة وفق رؤية الغرب، والثاني الذي لم يفهم الإسلام فهماً كاملاً فأتى بالعجائب، فأعلن خلافةً شوّه بها الإسلام وأساء إلى مشروع الأمة ومبعث نهضتها وعزّها، هذان الصنفان العجيبان اللذان لم يدرسا الإسلام، وفق طريقته بالدرس، واستخلاص الحلول للمشاكل التي تعترض طريق أمتنا في النهضة على أساس مبدئها، يقفون حجر عثرة في طريق الأمة وثورتها ويجب أن تتجاوزها.
إن الإسلام هو منهج الحياة الذي أنزله الله لعباده، وضمّنه المولى معالجات لكل المشاكل التي تعترض الإنسان في سيره في الحياة، ولذلك علينا قبل جلب الحلول لمشاكل ثورتنا أن نعرف من أين نأتي بهذه الحلول، أما أن نوصل الثائرين إلى الزاوية التي يريدها أعداؤنا ومن ثم نقول لهم ليس بالإمكان أكثر مما كان، فهذا هو التفكير الواقعي الذي ضرب جذور تفكير الأمة فأوصلها لأن تأخذ حلول مشاكلها من أعدائها، بل وجعله مصدراً لتفسير الإسلام لها!
أيها المسلمون في الشام! إن اتباع نهج محمد ﷺ وطريقته في التغيير هو الذي يجب أن يبحث، فالواقع الذي عاشه سيدنا رسول الله ﷺ يشابه الواقع الذي نعيشه كثيراً، إن لم نقل نفس واقعه، فالأحكام الشرعية التي يجب أن ننفذها لا يمكننا تطبيقها دون النظر في الواقع واستنزال الحكم الشرعي الذي يخص هذا الواقع، ومن هنا فعندما ننظر إلى واقع أهل الشام وقد تكالبت عليهم الأمم وهم ما زالوا صامدين صابرين، فإن هذا الواقع مرّ به رسولنا ﷺوصحابته الكرام، وبنظرة واعية نرى أن النبي ﷺ، أدرك أنه لا يمكن حماية المسلمين والدفاع عنهم، إلّا بإقامة دولة، تقيم دينهم وعقيدتهم، وتحفظ كرامتهم وحريتهم، وهذه الدولة ليست كأي دولة، ولأنها كذلك فقد سار بخطوات محددة توّجها بالانتقال إلى المدينة المنورة وإقامة دولته التي استمرت قرونا طويلة إلى أن هدمها الكافر المستعمر، وأمام هذا الواقع لابد أن نخلع الرؤى التي يراد لنا تبنيها بالشام، ورفضها بقياسها إلى الإسلام، فإقامة حكومة هنا وهناك، ليست من نهج النبوة، وموالاة الكفار وأخذ رأيهم أيضاً ليست من منهاج النبوة، أما نهج نبينا الكريم ﷺ فقد سطرته سيرته العطرة بأحرف من نور، فقد رفض نبينا ﷺ عرض قريش وهو بأمس الحاجة، فأصحابه معذبون على بطحاء مكة، وآخرون فارون إلى الحبشة من بطش الكفار، ومع ذلك لم يرض ﷺ بعروضهم، بل إنه لم يرض ممن عرض عليهم نصرة دعوته أن يُخِلّوا بشرط واحد، فقد أوردت السيرة النبوية المطهرة أن بني عامر بن صعصعة وافقوا على الإيمان بدعوة نبينا ونصرته، بشرط أن يكون لهم الحكم من بعده، ومع ذلك رفض ﷺ، بأبي هو وأمي، وكذلك فعل مع بني شيبان الذين وافقوا على نصرته بشرط أن يقاتلوا الجميع إلّا الفرس لأنهم مرتبطون معهم بعهود ومواثيق، نعم رفض النبي ﷺ هذه الشروط وهو بأمس الحاجة لها، ونرى قومنا اليوم يريدون الحلول من أعدائهم لما يعتري طريق تحررنا، فكيف ذلك يا قوم، وبعضهم سقط ووافق على عروض الكفار من أول الأمر؟!
إن الثورة بالشام تنتقل من مرحلة إلى أخرى وتسير على جمر الخيارات المخالفة للإسلام، ألم يأن الوقت يا أهلنا أن نستلهم هدي الحبيب المصطفى ﷺ برفض المشاريع الغربية الجاهزة، التي يقدمها لنا الغرب ولن تكون حميميم وسوتشي آخرها؟! إن أعداء الثورة ماكرون؛ يقدمون العروض فإن قبلنا وتخلينا عن شيء من الإسلام انتقلوا إلى عرض آخر ولن يكون في النهاية إلّا التخلي عن ديننا، بحجة وقف القصف والقتل وكأنه توقف، وكأن الكفار لهم عهد وذمة! وقد أخبرنا ربنا بذلك فقال: ﴿لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ﴾، ألا تريدون أن تكونوا كالذين مدحهم الله فقال: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾؟! فلتتوكلوا على الله يا أهل الشام ولتنبذوا أولئك الذين لا يريدون بكم إلّا خذلان الله لكم بتزيين موالاة الكفر بأنه حياة، وهو في حقيقته خزي في الحياة وعذاب في الآخرة... ﴿فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾.
كتبه لجريدة الراية: أحمد معاز، بتاريخ الأربعاء 8 تشرين الثاني/نوفمبر 2017م
المصدر: http://bit.ly/2m0rV78