المنصب في الإسلام ليس تشريفًا، بل تكليفٌ عظيمٌ وحملٌ ثقيل، أدرك ذلك الخلفاء الراشدون جيدًا، ووعاه الناس من بعدهم، فقاموا يراقبون ويحاسبون، لا بدافع الفتنة ولا بغرض التشويش، بل لأن الإسلام جعل السلطان للأمة، فهي صاحبة الحق في تعيين من ينوب عنها لتطبيق أحكام الشرع، على اعتبار أن السيادة للشرع والسلطان للأمة.
ومن هذا الفهم نشأ حق الأمة في المحاسبة، وهو جزء أصيل من نظام الحكم في الإسلام، وقد فهم الخلفاء هذا الحق وعملوا به. فكانت أبوابهم مفتوحة، وآذانهم صاغية، وقلوبهم راضية بالحق مهما كان صاحبه.
وقد جسد عمر بن الخطاب هذا المفهوم في أكثر من موقف، فقام سلمان الفارسي يوقفه وهو على المنبر، سائلاً إياه عن ثوب زائد عن حصته في القماش، فلم يغضب عمر ولم يقمعه، بل طلب من ابنه عبد الله أن يخبر الناس بالحقيقة، فقام وقال: "إن أبي أخذ ثوبي فضمّه إلى ثوبه"، فقال سلمان: "الآن نسمع ونطيع".
وفي موقف آخر، حين أراد عمر أن يحدد المهور، اعترضته امرأة من عامة الناس، وقالت له: "يعطينا الله وتمنعنا؟ ألم يقل الله: ﴿وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا﴾؟"، فوقف عمر أمام رأيها وقال بكل تواضع: "أصابت المرأة وأخطأ عمر".
والملاحظ أنه لم يخرج أحد من الصحابة ليرد على من أنكر في هذين الموقفين باتهامه بأنه "صاحب فتنة"، أو القول بأن "الخليفة حكيم لا يخطئ، وأفعاله مدروسة، وهو أدرى بالمصلحة". لم يقل أحد ذلك، لأنهم كانوا يدركون أن للأمة حقًا مقدسًا في المحاسبة والمساءلة.
كفانا اليوم تبريرًا لأخطاء الحكام، وكفانا تصدّيًا لكل من ينكر منكرًا أو يعارض ظلمًا، وكفانا وصف من يقول كلمة الحق بأنه "مفتن" أو "لا يفقه"، وكأن الدولة معصومة، وكل قراراتها منزّهة ومدروسة بعناية لا تقبل النقاش.
إن مثل هذه الأقوال لا تضيف للدولة حكمة، ولا تمنحها هيبة، بل تكرّس الاستبداد وتغلق باب الإصلاح، فإنما نهضت أمة الإسلام يوم كان فيها من ينكر، ومن يقوّم، ومن يُسمع صوته في وجه الباطل دون أن يُخوّن أو يُتهم.
وهذه هي خيرية الأمة التي حدّدها الله تعالى في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حيث قال عزّ وجل: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ، تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ [آل عمران: 110].
وقد بيَّن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهمية هذا الدور في الحديث الشريف: (مثل القائم على حدود الله، والواقع فيها، كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضُهم أعلاها، وبعضُهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقًا، ولم نؤذِ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعًا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا، ونجوا جميعًا). [رواه البخاري].
كتبه للمكتب الإعلامي لحزب التحرير في ولاية سوريا
وائل مسعود